“الانتداب”.. مصطلح خبيث لتجميل وجه الاحتلال البريطاني لفلسطين

على مدار ثلاثة عقود من الزمن، ظلت فلسطين واقعة تحت ما يسمى “الانتداب” البريطاني ظلما وعدوانا، والذي كان من أشد الاحتلالات التي عرفتها المنطقة، ممهدا الطريق للعصابات الصهيونية؛ للسيطرة على فلسطين وإقامة وطنهم الذي وعدهم فيه وزير الخارجية البريطانية في عام 1917 آرثر بلفور.

كانت بريطانيا ومن خلفها “عصبة الأمم”، تدركان أهمية موقع فلسطين، وأن احتلالها بهذه الطريقة المباشرة بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1917، لن يكون أمرا هيّنا، سيما وأن فيها المسجد الأقصى المبارك، لذلك اختارت مسمى “الانتداب” لتجميل الاحتلال وكأنها صاحبة الوصاية الدولية،وليس احتلالا، لإدارة شؤون وتسليمه عام 1948 إلى العصابات الصهيونية، في واحدة من كبرى المسرحيات العالمية.

قاوم الشعب الفلسطيني ومن خلفه كل الأحرار في العالم، “الانتداب” الذي كان احتلالا حقيقيا، بكل الطرق من أجل إنهائه، ولكن مدة الانتداب (1917- 1948) كانت كافية من اجل تسليح وتدريب العصابات الصهيونية وإنهاك الشعب الفلسطيني بشكل مباشر من خلال الاحتلال، وبشكل غير مباشر من خلال مسرحية هزيمة الجيوش العربية عام 1948؛ لتثبيت أركان الاحتلال الإسرائيلي، منهيا بذلك حقبة من حقب التاريخ المهمة.

وأعلنت عصبة الأمم 6 تموز/ يوليو عام 1921، عن “مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين”، والذي صودق عليه في 24 تموز/ يوليو 1922، ووضع موضع التنفيذ في 29 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه.

وأكد المتخصص في التاريخ الفلسطيني والقرى والمدن الفلسطينية المدمرة، رشاد المدني، أن الشعب الفلسطيني تعرض لمؤامرة دولية منذ مطلع القرن العشرين، وذلك بالتزامن مع بداية انهيار الدولة العثمانية والمجيء بالصهاينة من كل العالم ليتخذوا من فلسطين وطنا لهم.

وأوضح المدني لـ “قدس برس”، أن بريطانيا اختارت عام 1917، مستغلة هزيمة الدولة العثمانية، من أجل أصدر وعد بلفور، ثم تعزيزه بصك الانتداب البريطاني على فلسطين بعد 3 سنوات.

وقال: “هذا الاحتلال بغيض يعني إدارة الشؤون المدنية والإدارية والاقتصادية والأمنية والعسكرية من اجل زرع بذور الكيان الصهيوني في المنطقة”.

وأضاف: “بريطانيا كانت تدعم العصابات الصهيونية بكل شيء وتقويها وتعتبر وجودها في فلسطين انتدابا مؤقتا، حيث استمر 30 سنة أنهكت خلالها الشعب الفلسطيني وسلمت أرضه على طبق من ذهب للصهاينة، حيث كانت دولتهم بمؤسساتها جاهزة”.

وأوضح المدني أن المادة الثانية من صكّ الانتداب البريطاني” تؤكد على أن تكون الدولة المنتدَبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإداريّة واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي لليهود فيها”؛ وذلك تنفيذاً لإعلان بلفور، الصادر عن الحكومة البريطانيّة عام 1917، خلال الحرب العالميّة الأولى.

وشدد على أن الصك يتضمن التزام بريطانيا بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، مشيرا إلى أن التفكير البريطاني آنذاك كان متمحوراً حول إيجاد كيان موال يخلف الدولة العثمانية في حكم فلسطين.

ومع بدء “الانتداب البريطاني” على فلسطين، عام 1920، بحثت الحكومة البريطانيّة عن حاكم يضمن تنفيذ إعلان بلفور، فوقع الاختيار على “هربرت صموئيل”، وهو اليهوديّ المنتسب للحركة الصهيونيّة، ليكون أول حاكم للانتداب في فلسطين، ليبدأ بممارسة سلطاته عبر إصدار سلسلة من القرارات الداعمة للمشروع الصهيوني، وكان في طليعتها الاعتراف بالمؤسسات الصهيونية، وعلنيّة نشاطها في فلسطين، والاعتراف باللغة العبريّة كلغة رسميّة في فلسطين.

وأصدر “صموئيل” أمراً بتأسيس دائرة جديدة للأراضي، وتعيين اليهوديّ الصهيونيّ، “نورمان بنتويش”، رئيساً لها والتي قامت الدائرة بإصدار قانون انتقال الأراضي لعام 1920، والذي تضمّن النصّ على منع انتقال الأراضي إلّا لمن كان مُقيماً في فلسطين؛ وكان الهدف من ذلك الحدّ من الطلب والمنافسة على الأرض، وبالتالي تخفيض ثمن الأراضي وطرح المعروض منها للبيع بين أيدي الأفراد والمؤسسات الصهيونية لشرائها بأقل الأسعار دون منافسة من الخارج.

من جهته، قال المؤرخ الفلسطيني غسان وشاح، رئيس قسم التاريخ والآثار السابق في الجامعة الإسلامية بغزة: “إن كلمة (انتداب) مصطلح ذو دلالة فيها خبث كبير”.

وأضاف وشاح لـ “قدس برس”: “لو عدنا للوراء قليلا، سنجد أن تشكيلة العالم كانت كالتالي: كان هناك عصبة الأمم هي المنظمة الدولية، وهي منظمة تنظم عمليات احتلال الكبرى للدول الضعيفة”.

وأشار إلى انه في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1917، صدر وعد بلفور، وأعطت بريطانيا هذا الوعد للحركة الصهيونية، وهو تعهد ورعاية أن تقيم وتؤسس الإمبراطورية البريطانية دولة للصهاينة على ارض فلسطين.

وقال: “الذي حدث أن بريطانيا تريد أن تنفذ هذا الوعد، وتريد أن تدخل في إجراءات عملية على الأرض؛ لذلك بريطانيا عندما دخلت الحرب العالمية الأولى وهزمت الدولة العثمانية وجدنا أن الجنرال “إدموند أللنبي” قائد القوات البريطانية دخل من مصر إلى سيناء ثم إلى فلسطين واحتلها عسكريا، وذلك كان تحديدا في أيلول/ سبتمبر من عام 1917، بهدف إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ثم أصدرت في العام 1920، صك الانتداب البريطاني على فلسطين”.

وعن مصطلح الانتداب قال وشاح: “بريطانيا لا تريد أن توصف بأنها دولة محتلة، وتريد أن توصف بأنها دولة منتدبة من المجتمع الدولي (عصبة الأمم)، أي أنها دولة مفرزة ومنوط بها أن تحكم وتدير شؤون فلسطين، بحجة أن الشعب الفلسطيني لا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه، من هنا جاء مصطلح (الانتداب) فاختارت عصبة الأمم بريطانيا لذلك”.

وأضاف: “صك الانتداب يتضمن وعد بلفور، فأصبح تنفيذ وعد بلفور هو احد أهداف الانتداب وتم تشريع وعد بلفور، واحتلت بريطانيا فلسطين قرابة 30 سنة متواصلة، من سنة 1917 حتى سنة 1948، وكان الهدف الأول والأخير هو أن يتم تجميع الصهاينة من كل العالم، فجمع الصهاينة من 91 دولة، وأسكنوا في فلسطين”.

وأكد وشاح على أن الصهاينة الذين جاءوا لفلسطين، كانوا ضعفاء لا يملكون شيئا، ولكن بريطانيا عملت على تقويتهم في جميع المجالات، وبدأت في المقابل بخطة منهجية مدروسة لإضعاف الشعب الفلسطيني على جميع المحاور والمستويات والمجالات و دمرت قدراته.

وقال: “بريطانيا استخدمت مصطلح (الانتداب) كي تستمر في الاحتلال، وكي تشرعن احتلالها لفلسطين، وكي تستطيع أن تفعل ما تريد تحت عباءة عصبة الأمم والمجتمع الدولي آنذاك”.

وأضاف: “وصلت بريطانيا إلى عام 1947، وأصبح لديها قناعة أن الصهاينة يستطيعوا أن ينتصروا على الشعب الفلسطيني ويغتصبوا أرضه حيث أعطتهم الطائرات والدبابات والمواقع العسكرية ودربتهم تدريب علي المستوى على القتال، وذلك بتأسيس فيلق كامل من الصهاينة ليحارب في الحرب العالمية الثانية كي يكونوا جاهزين للقتال الشرس في فلسطين”.

وأوضح الأكاديمي الفلسطيني أن بريطانيا قدمت عام 1947، مشروعا إلى الأمم المتحدة التي جاءت مكان عصبة الأمم وطلبت فيه مغادرة فلسطين في 15 أيار /مايو “1948، مشيرا إلى أن الأمم المتحدة اجتمعت وأصدرت القرار “181”، وكان في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947م، حث كان هذا القرار بداية الحرب على فلسطين والتي عرفت لاحقا باسم “نكبة الشعب الفلسطيني”.

من جهته، أعرب أستاذ الإعلام في الجامعات الفلسطينية إياد حمدان، عن أسفه لاستمرار المؤسسات الفلسطينية في التعامل مع مصطلح “الانتداب”.

وقال حمدان لـ “قدس برس”: “كانت بريطانيا تدرك عام 1920 حينما أطلقت على احتلالها لفلسطين مصطلح الانتداب؛ ماذا تعني هذه الكلمة في الوجدان العربي والعالمي، وكانت تقصد من وراء هذا المصطلح إيهام العالم، أنها دولة غير محتلة، وأنها انتدبت لإدارة شؤون الفلسطينيين نظرا لعدم مقدرتهم على القيام بذلك”.

ودعا وسائل الإعلام ووزارة التربية والتعليم والجامعات الفلسطينية إلى ضرورة تغيير هذا المصطلح في المناهج لأنه تزييف للحقيقة والواقع.

وقال حمدان: “أدرك أن تغيير هذا المصطلح ليس سهلا؛ لأنه ارتبط بالوعي الفلسطيني ولكن في نفس الوقت ليس مستحيلا”.

ودعا إلى إطلاق حملة فلسطينية لتغير هذا المصطلح، واستبداله بالمصطلح الحقيقي “الاحتلال”.

وأضاف: “هناك الكثير من المصطلحات الأخرى بحاجة إلى تغيير وعدم الاستسلام إلى أنها أصبحت جزء من الواقع فالواقع هذا نحن من يرسمه ويخطه ويؤرخه”.

Source: Quds Press International News Agency

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *